مقال تم البحث عنة بواسطة الطالبة_رضوى الدمرداش الفرقة الرابعة انتظام
عن الفلسفة الوجودية
إ.م. بوشنسكي
ترجمة : د. عزّت قرني
أصبحت الفلسفة الوجودية حديث الجمهور وموضع الإقبال في عدد من البلاد بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم أن كتاب جان بول سارتر "الوجود والعدم" كتاب شديد الصعوبة، وتتطلب قراءته معرفة متعمقة بتاريخ الفلسفة، وان تحليلاته شديدة التخصص وشديدة التجريد بحيث أنه لا يقدر على متابعتها إلا فلاسفة خبراء وجيدي التكوين. على الرغم من كل هذا إلا أن الكتاب لاقى نجاحاً عظيما.
ولا شك أن الفلاسفة الوجوديين الفرنسيين قد صنعوا لأنفسهم جمهوراً واسعاً بفضل ما كتبوه من روايات ومسرحيات. ولكن هذه الشعبية ذاتها ولّدت ألواناً من سوء الفهم المختلفة بإزاء الوجودية الفلسفية. وينبغي علينا منذ الابتداء إزالة ألوان سوء الفهم هذه (…) ببيان ما ليس من الفلسفة الوجودية وما ليست هي عليه.
ومن الواضح أن الوجودية تتناول مشكلات تسمى اليوم مشكلات "وجودية" للإنسان، من مثل مشكلة معنى الحياة، مشكلة الموت، ومشكلة الألم بين مشكلات أخرى. ولكن الوجودية لا تقف عند حد تناول هذه المشكلات، لأنها مسائل مما تتناوله كل العصور بالمعالجة.
ومن الخطأ الشديد أن يُسمّى "القديس أوغسطين" أو باسكال وجوديين، لمعالجتهما أمثل هذه المسائل. وسيكون خطأ كذلك إلقاء التسمية الوجودية على كتّاب أوربيين من القرن العشرين الميلادي؛ من مثل الناقد الإسباني ميجل دي أونامونو (1937 – 1861م) والروائي الكبير فيدور دستويفسكي (1821 – 1881م)، والشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه (1875 – 1926م). فهذه المجموعة من الكتاب والشعراء تناولوا في أعمالهم عدداً من المشكلات الإنسانية المتنوعة بطريقة شديدة التأثير، ولكن هذا لن يجعلهم مع ذلك من فلاسفة الوجود.
وخطأ آخر أن يسمى الفلاسفة الذين يدرسون الوجود بمعناه الدقيق، أو يدرسون الموجود الكائن، أن يسموا بالوجوديين. ويضل بعض أتباع المذهب "التوماوي"(نسبة إلى "توما الأكويني") ضلالاً بعيداً حين يزعمون أن القديس توما الأكويني من أسلاف الوجوديين.
وسوء فهم آخر لا يقل فداحة عن سابقه هو ذلك الذي يريد أن يدخل "هسرل" في ضمن تيار الفلسفة الوجودية. لا لشيء إلا لأنه أثر عليها تأثيراً عظيماً. فالواقع، أن "هسرل" يضع الوجود بين قوسين.
أخيراً فإنه يجب أن تحدد الفلسفة الوجودية بمذهب وجودي واحد.وليكن مثلاً فلسفة سارتر، لأنه تقوم فروق جوهرية بين المذاهب الوجودية بعضها والبعض كما سنرى.
في مقابل ألوان سوء الفهم هذه جميعاً. فإن المؤكد أن الفلسفة الوجودية تيار فلسفي لم يتشكل إلا في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي في الحضارة الغربية. وان أصوله لا تتعدى كيركجارد، وأنه نما وتطور وظهر على هيئة عدة مذاهب متباينة. والجزء المشترك فيما بينها هو وحده الذي يستحق أن يسمى عن حق بأنه "الفلسفة الوجودية".
الفلاسفة الوجوديون
نظن أنه من المناسب، في إطار هذا العرض، أن نجمع أولاً الفلاسفة الذين يعدون ضمن المدرسة الوجودية. وان نحاول ثانياً، استخلاص ما يجمع بينهم ويكون مشتركاً عندهم.
هناك فلاسفة أربعة على الأقل، في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي يوصفون بأنهم وجوديون من غير منازعة من أحد: جابريل مارسل، كارل ياسبرز، مارتين هيدجر، وجان بول سارتر. وهم جميعاً يعلنون انتسابهم إلى "كيركجارد" الذي يعد فيلسوفاً وجودياً مؤثراً في القرن العشرين، رغم بعده في الزمان.
وفيما عدا هؤلاء الأربعة البارزين، فإنه لا يوجد كثيرون غيرهم يمكن عدهم وجوديين، على المعنى الدقيق، على الرغم من أن الاتجاه الوجودي لاقى اهتماماً عند عدد من الفلاسفة، وتأثر به البعض. ويمكن أن نشير هنا إلى معاونة سارتر، وهي "سيمون دي بوفوار"، وعلى الأخص "موريس ميرلو - بونتي"، وهو واحد من أ هم العقول في الفلسفة الفرنسية في منتصف القرن العشرين الميلادي.
ويمكن أن نشير إلى مفكرين روسيين هما: نقولاس برديانيف (1874-1948م) وليون شسشوف (1866 – 1942م) اللذين عرفا عن طريق كتاباتهم بالفرنسية. ونذكر كذلك المفكر البروتستانتي المشهور كارل بارت (ولد عام 1886م) والذي تأثر بكيركجارد تأثراً ملحوظا. ومن جهة أخرى فإنه سيكون من الخطأ أن نعد "لوي لافل" بين الوجوديين بينما هو في الحقيقة من فلاسفة الوجود (…).
لقد مات كيركجارد عام 1855م. وفي عام 1919م يظهر ياسبرز مع كتابه سيكولوجيا النظرة إلى العالم، ثم يظهر في عام 1927م كتاب مارسل "يوميات ميتافيزيقية". وكذلك كتاب هيدجر "الوجود والزمان". وفي عام 1932م يظهر كتاب ياسبرز "فلسفة"، ويظهر كتاب سارتر "الوجود والعدم" عام 1943م. ونلاحظ أن الوجودية لم تنل انتشاراً في البلاد المتكلمة بلغات نشأت عن اللاتينية، وخاصة في فرنسا وإيطاليا، إلا بعد الحرب العالمية الثانية، بينما كانت مؤثرة تأثيراً قوياً في ألمانيا منذ حوالي 1930م.
أصول الفلسفة الوجودية
أشار الكتّأب من قبل إلى الأهمية الكبرى لمؤلفات سورين كيركجارد (1813 – 1855م) بالنسبة إلى الوجودية. ولم يحظ هذا المفكر البروتستانتي الدانماركي، في أثناء حياته ذاتها، إلا بتأثير لا يكاد يذكر، ويعود السبب في إعادة اكتشافه في خلال القرن العشرين الميلادي إلى الصلة الوثيقة التي تربط بين فكرة التراجيدي (المأساوي) والذاتي وروح الحضارة الغربية في خلال القرن العشرين الميلادي. وقد قدم جابريل مارسل أفكاراً قريبة من أفكار كيركجارد، في وقت لم تكن قد عرفت فيه بعد كتب المفكر الدانماركي.
ولم يقدم كيركجارد نظاماً فلسفياً بالمعنى المعروف، إنما هو يهاجم أعنف هجوم فلسفة هيجل، وذلك بسبب طابعها "العمومي" وبسبب اتجاهها الموضوعي. وهو ينكر إمكان التوفيق والمصالحة. أي إمكان هدم المعارضة بين القضية ونقيضها في تركيب جديد عقلاني ومنظم. ويؤكد كيركجارد أولوية الوجود على الماهية. وربما كان هو أول من أعطى كلمة "وجود" معناها "الوجودي".
وكيركجارد معارض للعقل إلى أقصى درجة. فهو يرى انه لا يمكن أن نصل إلى الإله بوسيلة طرائق الفكر. لأن العقيدة المسيحية مليئة بالتناقضات. ويعتبر أن كل محاولة من أجل إضفاء طابع عقلي عليها هي تجديف وكفر.
وقد جمع كيركجارد إلى نظريته عن القلق، نظرية في وحدة الإنسان الفرد وعزلته عزلة كاملة في مواجهة الإله. ونظرية في المصير التراجيدي (المأساوي) للإنسان. وقد رأى أن اللحظة هي تركيب يجمع بين الزمان والخلود.
إلى جانب تأثير كيركجارد، كان "لفينومينولوجيا" هسرل تأثير عظيم على الفلسفة الوجودية. ويستعمل كل من "هيدجر" و"مارسل" و"سارتر" بصفة عامة المنهج "الفينومينولوجي" على الرغم من أنهم لم يقبلوا قضايا هسرل الأساسية، ولا حتى موقفه المبدئي.
كذلك فإن الوجودية تأثرت تأثراً ظاهراً بفلسفة الحياة، وهي تدفع بهذا الاتجاه إلى أبعد مما وصل إليه ، بتطوير مذهبه في الفعل والنشاط وتحليلاته حول الزمان ونقده للمذهب العقلي ونقده كذلك في كثير من الأحيان للعلوم الطبيعية. ويمكن اعتبار برجسون ودلتاي وعلى الأخص نيتشه أسلافا للوجودية.
أخيراً فإن الفلسفة الميتافيزيقية الجديدة كان لها دور هام جداً في تكون الفلسفة الوجودية. وذلك أن كلّ الوجوديين يعالجون مشكلات ميتافيزيقية بالأصالة، موضوعها "الوجود". وبعضهم، مثل هيدجر، يتميز بمعرفته المتعمقة للمذاهب الميتافيزيقية عند اليونان وفي القرون الوسطى المسيحية.
وحين يحاول الوجوديون أن يصلوا إلى الوجود في ذاته، فإنهم يجتهدون في نفس الوقت أن يتغلبوا على النزعة المثالية وأن يتعدوها. ومع ذلك، فإن بعضهم، وعلى الأخص ياسبرز، لا يزالون يخضعون خضوعاً قوياً لتأثير النزعة المثالية.
وهكذا، فإن الوجودية تظهر من معطف الاتجاهين الكبيرين اللذين قاما بقطع الصلات مع الفكر السائد في القرن التاسع عشر الميلادي. كما أنها متأثرة في نفس الوقت بحركة أخرى مميزة للفلسفة الغربية في القرن العشرين الميلادي، ألا وهي الفلسفة الميتافيزيقية.
الخصائص المشتركة بين الفلاسفة الوجوديين
أ) السمة المشتركة الرئيسية بين مختلف الفلسفات الوجودية في القرن العشرين الميلادي تقوم في أنها جميعاً تتبع ابتداء من تجربة حية معاشة، تسمى تجربة وجودية. ومن الصعب تعريفها تعريفاً دقيقاً. وهذه التجربة الوجودية تختلف بين فيلسوف وآخر من هؤلاء الوجوديين.
وهكذا، فإن تلك التجربة تأخذ في حالة ياسبرز شكل إدراك هشاشة الوجود وفي حالة هيدجر شكل تجربة السير باتجاه الموت. وفي حالة سارتر شكل تجربة الغثيان، ولا يخفي الوجوديون أبداً أن فلسفتهم نشأت من تجربة من هذا القبيل.
ومن هنا فإن الفلسفة الوجودية بصفة عامة، بما في ذلك عند هيدجر، تحمل طابعاً شخصياً بسبب هذه التجربة المعاشة.
ب) الموضوع الرئيسي للبحث الفلسفي عند الوجوديين هو ما يسمى "الوجود". ومن الصعب تعريف المعنى الذي يأخذ عليه الوجوديون تلك الكلمة، ولكنها تدل على كل حال، على الطريقة الخاصة بالإنسان في الوجود. ويرى الوجوديون أن الإنسان وحده هو الذي يحوز الوجود. وهم نادراً ما يستخدمون كلمة "إنسان"، وإنما يدلون عليه بتعبيرات مثل "الموجود – هناك". و"الوجود" و"الأنا" و "الوجود لأجل ذاته". ولنصحح قولنا إن الإنسان "يحوز" أو يملك وجوده، فالإنسان لا يملك وجوده، إنما الأحرى أنه هو هو وجوده.
ت) يتصور الوجوديون الوجود على نحو فاعلي نشط، فلا يكون الوجود، وإنما هو يخلق نفسه بنفسه في الحرية. بعبارة أخرى هو "يصير".
إن الوجود دائماً غير مكتمل، وكأنه يُبتدأ، إنه شروع واستقبال. ويؤكد الوجوديون على نحو أقوى هذا الموقف حين يقولون بأن الوجود يتماشى تماماً ويتطابق مع الزمانية.
ث) الفرق بين هذا الاتجاه الفاعلي عند الوجوديين والاتجاه الفاعلي عند فلسفة الحياة يقوم في أن الوجوديين يعتبرون أن الإنسان ذاتية خالصة، وليس مظهراً أو تجسيداً لتيار حيوي أشمل منه (أي التيار الحيوي الكوني) كما كان الحال عند برجسون على سبيل المثال. ويضاف إلى هذا أن الوجوديين يفهمون الذات، بمعناها الخلاق، فالإنسان يخلق نفسه بنفسه، إنه هو هو حريته هو.
ج) لكنه سيكون من الخطأ، مع ذلك، أن نستنتج أن الإنسان عند الوجوديين منغلق على نفسه. على العكس تماماً، فإن الإنسان، وهو الحقيقة الناقصة والمفتوحة، هو، من حيث جوهره ذاته، مربوط أوثق ارتباط إلى العالم، وعلى الأخص إلى البشر الآخرين.
ويقول كل المفكرين الوجوديين بهذه التبعية المزدوجة. وذلك على النحور التالي: فمن جهة، يبدو لهم الوجود الإنساني مضموماً في العالم، قائماً في داخله إلى درجة أن الإنسان يكون دائماً في موقف محدد، بأنه هو هو موقفه، ومن جهة أخرى فإنهم يرون أن هناك رباطاً وصلة بين البشر. وهذا الرباط يكوّن الطبيعة الخاصة للوجود الإنساني، شأنه شأن الموقف. وهذا هو معنى مفهوم "الوجود معا Mitsein" عند هيدجر و"التواصل" عند ياسبرز و"الأنت" عند مارسل".
ح) ويرفض كل الوجوديين التمييز بين الذات والموضوع . ويقللون من قيمة المعرفة العقلية في ميدان الفلسفة. فهم يرون أن المعرفة الحقة لا تكتسب بوسيلة العقل، بل ينبغي بالأحرى التعامل مع الواقع. هذا التعامل أو الخبرة يتم على الخصوص بالقلق، أو في تجربة القلق، وفيه يدرك الإنسان أنه موجود محدود قاصر، ويدرك هشاشة وضعه في العالم. هذا العالم الذي يلقى إليه الإنسان إلقاء. ويدرك أخيراً أنه سائر إلى الموت (عند هيدجر). ومع ذلك، وبالرغم من هذه السمات المشتركة بين الفلسفات الوجودية، والتي يمكن إضافة سمات أخرى مشتركة إليها، فإنه توجد اختلافات عميقة بين ممثلي الوجودية، إذا أخذ كل منهم بمفرده.
وهكذا مثلاً، نجد أن مارسل، مثل كيركجارد، يعلن إيمانه بالألوهية، بينما يقول ياسبرز بوجود التعالي أو المتعالي. ولكن لا يمكن أن نقول إن هذا التعالي يعادل القول بوجود الألوهية أم بوحدة الوجود والألوهية أم بإنكار الألوهية. وهذه المواقف الثلاثة يرفضها ياسبرز كلها على السواء.
أما فلسفة هيدجر فإنها تبدو فلسفة منكرة للألوهية، ومع ذلك فإن هيدجر صرح بأنه لا ينبغي اعتبارها كذلك، وان كان هذا التصريح لا يعني الشيء الكثير. أما سارتر، أخيراً، فإنه يحاول إقامة مذهب منكر للألوهية صريح ومتسق الأركان.
كذلك يتنوع الهدف والمنهج عند الفلاسفة الوجوديين، فنجد أن هيدجر يدعي أن يقدم نظرية في الوجود (أنطولوجيا) بالمعنى الأرسطي للاصطلاح. وهو يطبق منهجاً دقيقاً صارماً، وهو ما يفعله سارتر أيضاً على أثر "هيدجر". أما "ياسبرز" فإنه يرفض كل "أنطولوجيا" في مجال التعريف بالوجود. ومفهوماً على الطريقة الوجودية. ولكنه من جانبه يمارس نوعاً من التأمل الميتافيزيقي، وهو يستخدم منهجاً متحرراً إلى حد ما، غير مقيد بخطوات محددة.
_________________________ من كتاب: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، إ.إم.بوشنسكي، ترجمة: د.عزت القرني، عالم المعرفة 165، سبتمبر 1992.
إ.م. بوشنسكي
ترجمة : د. عزّت قرني
أصبحت الفلسفة الوجودية حديث الجمهور وموضع الإقبال في عدد من البلاد بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم أن كتاب جان بول سارتر "الوجود والعدم" كتاب شديد الصعوبة، وتتطلب قراءته معرفة متعمقة بتاريخ الفلسفة، وان تحليلاته شديدة التخصص وشديدة التجريد بحيث أنه لا يقدر على متابعتها إلا فلاسفة خبراء وجيدي التكوين. على الرغم من كل هذا إلا أن الكتاب لاقى نجاحاً عظيما.
ولا شك أن الفلاسفة الوجوديين الفرنسيين قد صنعوا لأنفسهم جمهوراً واسعاً بفضل ما كتبوه من روايات ومسرحيات. ولكن هذه الشعبية ذاتها ولّدت ألواناً من سوء الفهم المختلفة بإزاء الوجودية الفلسفية. وينبغي علينا منذ الابتداء إزالة ألوان سوء الفهم هذه (…) ببيان ما ليس من الفلسفة الوجودية وما ليست هي عليه.
ومن الواضح أن الوجودية تتناول مشكلات تسمى اليوم مشكلات "وجودية" للإنسان، من مثل مشكلة معنى الحياة، مشكلة الموت، ومشكلة الألم بين مشكلات أخرى. ولكن الوجودية لا تقف عند حد تناول هذه المشكلات، لأنها مسائل مما تتناوله كل العصور بالمعالجة.
ومن الخطأ الشديد أن يُسمّى "القديس أوغسطين" أو باسكال وجوديين، لمعالجتهما أمثل هذه المسائل. وسيكون خطأ كذلك إلقاء التسمية الوجودية على كتّاب أوربيين من القرن العشرين الميلادي؛ من مثل الناقد الإسباني ميجل دي أونامونو (1937 – 1861م) والروائي الكبير فيدور دستويفسكي (1821 – 1881م)، والشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه (1875 – 1926م). فهذه المجموعة من الكتاب والشعراء تناولوا في أعمالهم عدداً من المشكلات الإنسانية المتنوعة بطريقة شديدة التأثير، ولكن هذا لن يجعلهم مع ذلك من فلاسفة الوجود.
وخطأ آخر أن يسمى الفلاسفة الذين يدرسون الوجود بمعناه الدقيق، أو يدرسون الموجود الكائن، أن يسموا بالوجوديين. ويضل بعض أتباع المذهب "التوماوي"(نسبة إلى "توما الأكويني") ضلالاً بعيداً حين يزعمون أن القديس توما الأكويني من أسلاف الوجوديين.
وسوء فهم آخر لا يقل فداحة عن سابقه هو ذلك الذي يريد أن يدخل "هسرل" في ضمن تيار الفلسفة الوجودية. لا لشيء إلا لأنه أثر عليها تأثيراً عظيماً. فالواقع، أن "هسرل" يضع الوجود بين قوسين.
أخيراً فإنه يجب أن تحدد الفلسفة الوجودية بمذهب وجودي واحد.وليكن مثلاً فلسفة سارتر، لأنه تقوم فروق جوهرية بين المذاهب الوجودية بعضها والبعض كما سنرى.
في مقابل ألوان سوء الفهم هذه جميعاً. فإن المؤكد أن الفلسفة الوجودية تيار فلسفي لم يتشكل إلا في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي في الحضارة الغربية. وان أصوله لا تتعدى كيركجارد، وأنه نما وتطور وظهر على هيئة عدة مذاهب متباينة. والجزء المشترك فيما بينها هو وحده الذي يستحق أن يسمى عن حق بأنه "الفلسفة الوجودية".
الفلاسفة الوجوديون
نظن أنه من المناسب، في إطار هذا العرض، أن نجمع أولاً الفلاسفة الذين يعدون ضمن المدرسة الوجودية. وان نحاول ثانياً، استخلاص ما يجمع بينهم ويكون مشتركاً عندهم.
هناك فلاسفة أربعة على الأقل، في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي يوصفون بأنهم وجوديون من غير منازعة من أحد: جابريل مارسل، كارل ياسبرز، مارتين هيدجر، وجان بول سارتر. وهم جميعاً يعلنون انتسابهم إلى "كيركجارد" الذي يعد فيلسوفاً وجودياً مؤثراً في القرن العشرين، رغم بعده في الزمان.
وفيما عدا هؤلاء الأربعة البارزين، فإنه لا يوجد كثيرون غيرهم يمكن عدهم وجوديين، على المعنى الدقيق، على الرغم من أن الاتجاه الوجودي لاقى اهتماماً عند عدد من الفلاسفة، وتأثر به البعض. ويمكن أن نشير هنا إلى معاونة سارتر، وهي "سيمون دي بوفوار"، وعلى الأخص "موريس ميرلو - بونتي"، وهو واحد من أ هم العقول في الفلسفة الفرنسية في منتصف القرن العشرين الميلادي.
ويمكن أن نشير إلى مفكرين روسيين هما: نقولاس برديانيف (1874-1948م) وليون شسشوف (1866 – 1942م) اللذين عرفا عن طريق كتاباتهم بالفرنسية. ونذكر كذلك المفكر البروتستانتي المشهور كارل بارت (ولد عام 1886م) والذي تأثر بكيركجارد تأثراً ملحوظا. ومن جهة أخرى فإنه سيكون من الخطأ أن نعد "لوي لافل" بين الوجوديين بينما هو في الحقيقة من فلاسفة الوجود (…).
لقد مات كيركجارد عام 1855م. وفي عام 1919م يظهر ياسبرز مع كتابه سيكولوجيا النظرة إلى العالم، ثم يظهر في عام 1927م كتاب مارسل "يوميات ميتافيزيقية". وكذلك كتاب هيدجر "الوجود والزمان". وفي عام 1932م يظهر كتاب ياسبرز "فلسفة"، ويظهر كتاب سارتر "الوجود والعدم" عام 1943م. ونلاحظ أن الوجودية لم تنل انتشاراً في البلاد المتكلمة بلغات نشأت عن اللاتينية، وخاصة في فرنسا وإيطاليا، إلا بعد الحرب العالمية الثانية، بينما كانت مؤثرة تأثيراً قوياً في ألمانيا منذ حوالي 1930م.
أصول الفلسفة الوجودية
أشار الكتّأب من قبل إلى الأهمية الكبرى لمؤلفات سورين كيركجارد (1813 – 1855م) بالنسبة إلى الوجودية. ولم يحظ هذا المفكر البروتستانتي الدانماركي، في أثناء حياته ذاتها، إلا بتأثير لا يكاد يذكر، ويعود السبب في إعادة اكتشافه في خلال القرن العشرين الميلادي إلى الصلة الوثيقة التي تربط بين فكرة التراجيدي (المأساوي) والذاتي وروح الحضارة الغربية في خلال القرن العشرين الميلادي. وقد قدم جابريل مارسل أفكاراً قريبة من أفكار كيركجارد، في وقت لم تكن قد عرفت فيه بعد كتب المفكر الدانماركي.
ولم يقدم كيركجارد نظاماً فلسفياً بالمعنى المعروف، إنما هو يهاجم أعنف هجوم فلسفة هيجل، وذلك بسبب طابعها "العمومي" وبسبب اتجاهها الموضوعي. وهو ينكر إمكان التوفيق والمصالحة. أي إمكان هدم المعارضة بين القضية ونقيضها في تركيب جديد عقلاني ومنظم. ويؤكد كيركجارد أولوية الوجود على الماهية. وربما كان هو أول من أعطى كلمة "وجود" معناها "الوجودي".
وكيركجارد معارض للعقل إلى أقصى درجة. فهو يرى انه لا يمكن أن نصل إلى الإله بوسيلة طرائق الفكر. لأن العقيدة المسيحية مليئة بالتناقضات. ويعتبر أن كل محاولة من أجل إضفاء طابع عقلي عليها هي تجديف وكفر.
وقد جمع كيركجارد إلى نظريته عن القلق، نظرية في وحدة الإنسان الفرد وعزلته عزلة كاملة في مواجهة الإله. ونظرية في المصير التراجيدي (المأساوي) للإنسان. وقد رأى أن اللحظة هي تركيب يجمع بين الزمان والخلود.
إلى جانب تأثير كيركجارد، كان "لفينومينولوجيا" هسرل تأثير عظيم على الفلسفة الوجودية. ويستعمل كل من "هيدجر" و"مارسل" و"سارتر" بصفة عامة المنهج "الفينومينولوجي" على الرغم من أنهم لم يقبلوا قضايا هسرل الأساسية، ولا حتى موقفه المبدئي.
كذلك فإن الوجودية تأثرت تأثراً ظاهراً بفلسفة الحياة، وهي تدفع بهذا الاتجاه إلى أبعد مما وصل إليه ، بتطوير مذهبه في الفعل والنشاط وتحليلاته حول الزمان ونقده للمذهب العقلي ونقده كذلك في كثير من الأحيان للعلوم الطبيعية. ويمكن اعتبار برجسون ودلتاي وعلى الأخص نيتشه أسلافا للوجودية.
أخيراً فإن الفلسفة الميتافيزيقية الجديدة كان لها دور هام جداً في تكون الفلسفة الوجودية. وذلك أن كلّ الوجوديين يعالجون مشكلات ميتافيزيقية بالأصالة، موضوعها "الوجود". وبعضهم، مثل هيدجر، يتميز بمعرفته المتعمقة للمذاهب الميتافيزيقية عند اليونان وفي القرون الوسطى المسيحية.
وحين يحاول الوجوديون أن يصلوا إلى الوجود في ذاته، فإنهم يجتهدون في نفس الوقت أن يتغلبوا على النزعة المثالية وأن يتعدوها. ومع ذلك، فإن بعضهم، وعلى الأخص ياسبرز، لا يزالون يخضعون خضوعاً قوياً لتأثير النزعة المثالية.
وهكذا، فإن الوجودية تظهر من معطف الاتجاهين الكبيرين اللذين قاما بقطع الصلات مع الفكر السائد في القرن التاسع عشر الميلادي. كما أنها متأثرة في نفس الوقت بحركة أخرى مميزة للفلسفة الغربية في القرن العشرين الميلادي، ألا وهي الفلسفة الميتافيزيقية.
الخصائص المشتركة بين الفلاسفة الوجوديين
أ) السمة المشتركة الرئيسية بين مختلف الفلسفات الوجودية في القرن العشرين الميلادي تقوم في أنها جميعاً تتبع ابتداء من تجربة حية معاشة، تسمى تجربة وجودية. ومن الصعب تعريفها تعريفاً دقيقاً. وهذه التجربة الوجودية تختلف بين فيلسوف وآخر من هؤلاء الوجوديين.
وهكذا، فإن تلك التجربة تأخذ في حالة ياسبرز شكل إدراك هشاشة الوجود وفي حالة هيدجر شكل تجربة السير باتجاه الموت. وفي حالة سارتر شكل تجربة الغثيان، ولا يخفي الوجوديون أبداً أن فلسفتهم نشأت من تجربة من هذا القبيل.
ومن هنا فإن الفلسفة الوجودية بصفة عامة، بما في ذلك عند هيدجر، تحمل طابعاً شخصياً بسبب هذه التجربة المعاشة.
ب) الموضوع الرئيسي للبحث الفلسفي عند الوجوديين هو ما يسمى "الوجود". ومن الصعب تعريف المعنى الذي يأخذ عليه الوجوديون تلك الكلمة، ولكنها تدل على كل حال، على الطريقة الخاصة بالإنسان في الوجود. ويرى الوجوديون أن الإنسان وحده هو الذي يحوز الوجود. وهم نادراً ما يستخدمون كلمة "إنسان"، وإنما يدلون عليه بتعبيرات مثل "الموجود – هناك". و"الوجود" و"الأنا" و "الوجود لأجل ذاته". ولنصحح قولنا إن الإنسان "يحوز" أو يملك وجوده، فالإنسان لا يملك وجوده، إنما الأحرى أنه هو هو وجوده.
ت) يتصور الوجوديون الوجود على نحو فاعلي نشط، فلا يكون الوجود، وإنما هو يخلق نفسه بنفسه في الحرية. بعبارة أخرى هو "يصير".
إن الوجود دائماً غير مكتمل، وكأنه يُبتدأ، إنه شروع واستقبال. ويؤكد الوجوديون على نحو أقوى هذا الموقف حين يقولون بأن الوجود يتماشى تماماً ويتطابق مع الزمانية.
ث) الفرق بين هذا الاتجاه الفاعلي عند الوجوديين والاتجاه الفاعلي عند فلسفة الحياة يقوم في أن الوجوديين يعتبرون أن الإنسان ذاتية خالصة، وليس مظهراً أو تجسيداً لتيار حيوي أشمل منه (أي التيار الحيوي الكوني) كما كان الحال عند برجسون على سبيل المثال. ويضاف إلى هذا أن الوجوديين يفهمون الذات، بمعناها الخلاق، فالإنسان يخلق نفسه بنفسه، إنه هو هو حريته هو.
ج) لكنه سيكون من الخطأ، مع ذلك، أن نستنتج أن الإنسان عند الوجوديين منغلق على نفسه. على العكس تماماً، فإن الإنسان، وهو الحقيقة الناقصة والمفتوحة، هو، من حيث جوهره ذاته، مربوط أوثق ارتباط إلى العالم، وعلى الأخص إلى البشر الآخرين.
ويقول كل المفكرين الوجوديين بهذه التبعية المزدوجة. وذلك على النحور التالي: فمن جهة، يبدو لهم الوجود الإنساني مضموماً في العالم، قائماً في داخله إلى درجة أن الإنسان يكون دائماً في موقف محدد، بأنه هو هو موقفه، ومن جهة أخرى فإنهم يرون أن هناك رباطاً وصلة بين البشر. وهذا الرباط يكوّن الطبيعة الخاصة للوجود الإنساني، شأنه شأن الموقف. وهذا هو معنى مفهوم "الوجود معا Mitsein" عند هيدجر و"التواصل" عند ياسبرز و"الأنت" عند مارسل".
ح) ويرفض كل الوجوديين التمييز بين الذات والموضوع . ويقللون من قيمة المعرفة العقلية في ميدان الفلسفة. فهم يرون أن المعرفة الحقة لا تكتسب بوسيلة العقل، بل ينبغي بالأحرى التعامل مع الواقع. هذا التعامل أو الخبرة يتم على الخصوص بالقلق، أو في تجربة القلق، وفيه يدرك الإنسان أنه موجود محدود قاصر، ويدرك هشاشة وضعه في العالم. هذا العالم الذي يلقى إليه الإنسان إلقاء. ويدرك أخيراً أنه سائر إلى الموت (عند هيدجر). ومع ذلك، وبالرغم من هذه السمات المشتركة بين الفلسفات الوجودية، والتي يمكن إضافة سمات أخرى مشتركة إليها، فإنه توجد اختلافات عميقة بين ممثلي الوجودية، إذا أخذ كل منهم بمفرده.
وهكذا مثلاً، نجد أن مارسل، مثل كيركجارد، يعلن إيمانه بالألوهية، بينما يقول ياسبرز بوجود التعالي أو المتعالي. ولكن لا يمكن أن نقول إن هذا التعالي يعادل القول بوجود الألوهية أم بوحدة الوجود والألوهية أم بإنكار الألوهية. وهذه المواقف الثلاثة يرفضها ياسبرز كلها على السواء.
أما فلسفة هيدجر فإنها تبدو فلسفة منكرة للألوهية، ومع ذلك فإن هيدجر صرح بأنه لا ينبغي اعتبارها كذلك، وان كان هذا التصريح لا يعني الشيء الكثير. أما سارتر، أخيراً، فإنه يحاول إقامة مذهب منكر للألوهية صريح ومتسق الأركان.
كذلك يتنوع الهدف والمنهج عند الفلاسفة الوجوديين، فنجد أن هيدجر يدعي أن يقدم نظرية في الوجود (أنطولوجيا) بالمعنى الأرسطي للاصطلاح. وهو يطبق منهجاً دقيقاً صارماً، وهو ما يفعله سارتر أيضاً على أثر "هيدجر". أما "ياسبرز" فإنه يرفض كل "أنطولوجيا" في مجال التعريف بالوجود. ومفهوماً على الطريقة الوجودية. ولكنه من جانبه يمارس نوعاً من التأمل الميتافيزيقي، وهو يستخدم منهجاً متحرراً إلى حد ما، غير مقيد بخطوات محددة.
_________________________ من كتاب: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، إ.إم.بوشنسكي، ترجمة: د.عزت القرني، عالم المعرفة 165، سبتمبر 1992.
No comments:
Post a Comment