Saturday, October 20, 2007
البرهمانية 1
ديانة الهند: البراهمية في مرآة التراث العربي الإسلامى
ترك لنا مؤلفونا رزمة من المقالات، والمقتطفات عن الديانة الهندية. في ثنايا مؤلفاتهم الجغرافية والتارخية والأدبية، وفي مدونات رحلاتهم، بعضها مصدره السماع، وبعضها الآخر حصيلة رحلاتهم وتجاربهم في ربوع الهند، وانفرد البيروني في تأليفه، ليس لأنه جمع بين التجربة والمعايشة المباشرة، والسماع، بل لأنه قرأ المصنفات الدينية الهندية الاساسية من مصادرها الاصلية باللغة السنسكريتية، ولا سيما كتاب «بهاغوت غيتا» او «بهاغها فاديتا»، لذا فإننا اذا استثنينا (تحقيق) البيروني، الذي سنفرد لبحثه مقالاً لاحقاً، فإن الكتابات الاخرى، بما فيها كتابات المسعودي، وابن طاهر المقدسي، وابن النديم، والشهرستاني، اقتصرت على ابراز افكار وانطباعات عامة عن الديانة البراهمية، وشذرات غامضة عن البوذية، التي كانت عند دخول العرب الى الهند، واحتكاكهم بأهلها، في حال انحسار بعد ان امتصتها البراهمية، في ثنايا عقائدها المنفتحة على طرائق عدة من التعبد، والطقوس والعبادات، واقتصرت معالمها على بعض المعابد في بلخ، وباميان، وترمذ، وهي في افغانستان اليوم. وعلى رغم مما يقال عن عدم اتساق معرفتهم بالعقائد البراهمية، فإنهم استطاعوا الدخول الى التربة العامة لهذه الديانة، والى مناخاتها العقائدية وطقوسها الكبرى: اهمية براهما ومركزيته في هذه الديانة، وما تتضمنه من جانب «توحيدي» على رغم مظاهر التعدد، والـ «شرك»، والتي تجلت في تقديسها لبعض المظاهر الكونية، ثم انتشار قداسة الاصنام «البُد».البحث عن الديانة البراهمية/ الهندوسية«معطلة»، أي لا تؤمن بمسألة الخلق والخالق، اما البراهمة «فهم ثلاثة اصناف». ولعل المقدسي يشير هنا في طريقة غامضة الى المذاهب البراهمية المتمحورة حول الإلهة الثلاثة: براهما، وشيفو، ووشنو، غير انه يذهب في التفسير باتجاه آخر، فهذه الاصناف الثلاثة، «منهم من يقول بالتوحيد، والثواب والعقاب، ويبطلون الرسالة». وصنف آخر يقول: «بالثواب والعقاب على التناسخ، ويبطلون التوحيد والرسالة»، وزعمت الموحدية من البراهمة: ان الله عز وجل بعث اليهم ملكاً من الملائكة بالرسالة في صورة بشر اسمه «ناشد»، له اربع أيد... وله إثنا عشر رأساً... «قالوا: أمرنا بتعظيم النار... ونهى عن القتل وشرب الخمر، وأباح لنا الزنا، وأمرنا بعبادة البقر، وان نتخذ صنماً على مثاله».فلقد أبرز الباحثون العرب وجود التوحيد في البراهمية، ثم ما لبثت هذه النزعة التوحيدية، ان شابها التعدد، والتجسيد، وذلك من طريق تعظيمهم للأصنام، والنار، والبقر، وتصورهم هذا عن المزج بين (الوحدانية)، والتعددية، لا يجانب واقع الديانة البراهمية، وان كان ينقصه معرفة التسميات الملائمة، وإدراك النظام الشامل للعبادات البراهمية وترابطها، وعقائدها، وأسماء الهتها الكبرى، والتراتبية الهرمية للإلهة، ووظائف كل منها، في مجمعها، وهو ما جعلهم، بعد ابراز نزعة (التوحيد)، يستطردون في تعقب اعتقاداتهم بالإلهة المجسمة من اصنام وغيرها، والإفاضة في وصف الطقوس المرافقة للعبادة.وقد حار مؤلفونا، كيف أمكن للهندوس التوفيق بين الوحدانية والتجسيم، وهو احد اشتغالات «علم الكلام» لديهم، فليس من المستغرب ان يحاجج المروزي احد الهندوس في ذلك، اذ سأل احد البراهميين، «اذا كنتم تعلمون انه (أي الله) ليس كمثله شيء، فلم تعبدون الاصنام من دونه؟» فأجابه البراهمي: «انه قبلتنا كما ان قبلتكم حجارة مبنية (يقصد الكعبة) فأنتم تعبدونها».ومن مظاهر قولهم في وحدانية الله، ما اشار اليه الشهرستاني الى ان بعض فرقها قال: «قد دلّ العقل على ان الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبد الخالق إلا بما دل عليه عقله، وقد دلّت الدلائل العقلية على ان للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً... فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكر... وقالت اخرى «قد دل العقل على ان للعالم صانعاً حكيماً، والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبّح في عقولهم»، لذا فهم يستقبحون تخصيص دور للعبادات والطواف حولها، وتقبيل الأحجار، وذبح الحيوان تقرباً، كل هذه يعتبرونها «مخالفة لقضايا العقل».التبس لديهم الأمر في شأن «براهما»، بين ان يكون الملك المؤسس لوحدة الهند، ولحكمتها، ولدينها، وبين كونه رسولاً، وصاحب رسالة سماوية، لكنهم اتفقوا على إعلاء منزلته الى مرتبة المؤسس للديانة الهندية ولحكمتها وملكها، وأغفلوا الجانب الإلهي فيه، ولعل مرد ذلك، انهم عرفوا ان طبقة البراهمة، هي من الطبقات، التي تختص وحدها بدور الكهانة، وكأنها استمرار لدور حامل الرسالة الذي قام به (براهما)، وبالتالي فهي تنتسب اليه كمؤسس اول للديانة، والمنظم لقواعدها، وليس باعتباره كما تذهب الديانة البراهمية: إله الخلق وسيد الإله والمسيطر على العالم كله، والمحيط بجميع الكائنات، الى جانب الإلهين العظيمين الآخرين، الإلهه شبو اوشيفو Shivo المخرب المدمر الموكول له قبض ارواح الناس وتخليصها من ابدانها، ووشنو Vishnu الحافظ، إله الحب الذي أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ثم صعد الى السماء ليعود الى الناس من جديد قبل النشور ليهديهم الى الحق. والى جانب هؤلاء الإلهة العظام، هناك الآلاف، ان لم يكن ملايين الإلهة كما يذهب بعض الباحثين المعاصرين، بعضهم اقرب الى الملائكة ومنهم ما هو في صورة الطير والحيوان والهوام، تجمعهم كلها شبكة واحدة لتناسخ الارواح.وقد اكتفوا بالتأكيد على ان مؤسس الديانة الهندوسية هو «برهمن الاكبر والملك»، فهو «الإمام المقدم فيهم الذي ظهرت في ايامه الحكمة» غير انهم اضافوا الى ذلك احتمال ان يكون رسولاً. وأدركوا تعدد الإلهة عند الهنود وتعدد مذاهبهم، واقتربوا من وعي ان للهندوسية، ثلاثة إلهه عظمى. فأعتقد الحميري انهم «اثنتان وأربعون ملة، فمنهم من يثبت الخالق وينفي الرسل، ومنهم من ينفي الكل. ومنهم من يعبد النار ويحرق نفسه، ومنهم من يعبد الشمس ويسجد لها، ويعتقد انها الخالقة المدبرة لهذا العالم، ومنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد الثعابين». بينما اشار المسعودي الى انهم بدأوا سبعة فرق، ثم «اختلف اهل الهند ممن سلف وخلف في آراء هؤلاء السبعة، ثم تفرعوا بعد ذلك مذاهب... والذي وقع عليه الحصر من طوائفهم سبعون فرقة» وقسّم الشهرستاني (ت548هـ-1153م) مذاهب اهل الهند. ووضع البراهمة ما بين مذاهبهم الكثيرة، ومنهم البراهمة، وهم المنكرون للنبوات اصلاً، ومنهم من يميل الى الدهر، ومنهم من يميل الى الثنوية ويقول بملة ابراهيم عليه السلام، وأكثرهم على مذهب الصابئة ومناهجها، فمن قائل بالروحانيات، ومن قائل بالهياكل، ومن قائل بالأصنام»، وفصّل (مطهّر المقدسي) الأمر، فالهند «تسع مئة ملة مختلفة»، عُرف منها تسعة وتسعون ضرباً، الا انه ارجعهم بالنهاية الى «اسمين: البراهمة والسمنية» والسمنية اسم اطلقه العرب على «البوذية»، التي هي وعلى رغم مما قرره اغلب مصنفينا، من ان البراهمية، كما عبر الشهرستاني، «انما ينتسبون الى رجل منهم يقال له براهم، وقد مهد لهم نفي النبوات اصلاً وقرر استحالة ذلك في العقول» فإن بعضهم الآخر لم ينف عن البراهمة قولها بالنبوة والرسالة، فإذا كان المسعودي قد اشار مرة الى احتمال ان يكون البراهما رسولاً، فإن المروزي وابن طاهر المقدسي اكدا، ان بعض فرقهم جمع بين القول بالخالق الواحد، والنبوة والرسالة، اذ يقول «فممن اثبت الخالق البراهمة، زعموا ان رسول الله اليهم ملك من الملائكة يقال له سديو اتاهم في صورة البشر برسالة من غير كتاب، أمرهم ان يتخذوا صنماً يعبدونه، وان يعبدوا البقر وان لا يجازوا (يجتازوا) نهر الغانج»، فجمعت هذه الفرقة بين الوحدانية والخلق، والايمان بالرسل، وعبادة الاصنام تقرباً الى الله. وأشاروا ايضاً الى فرقة اخرى اسمها «المهادوية»، وهي على اسم رسولهم، الذي «امرهم بعبادة الله، وان يتخذوا على مثاله صنماً يعبدونه، وهو سبيلهم الى الخالق». هنا تصبح عبادة الصنم وساطة للوصول الى الله وتقرباً منه، وليس عبادة له بحد ذاته، وهذه المسألة من الاهمية، بحيث خصص لها المسعودي مقطعاً مهماً تفحص فيه دوافعها ومعانيها لدى البراهمية، مخضعاً تصوره الى نمو الروح الايماني في التاريخ. فهو يشير الى ان كثيراً من اهل الهند والصين: يعتقدون ان الله عز وجل جسم، وان الملائكة اجسام، وان الله وملائكته احتجبوا بالسماء فدعاهم ذلك الى ان يتخذوا تماثيل وأصناماً على صورة الباري، وعلى صورة الملائكة، يعبدونها ويقربون لها القرابين، والنذور، «لشبهها عندهم بالباري، وقربها منه»، فأقاموا على ذلك برهة من الزمان، حتى نبههم بعض حكمائهم، الى ان الافلاك والكواكب أقرب بينها وبين الله، وان كل ما يحدث في العالم انما على قدر ما تجرى به الكواكب عن أمر الله، فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم، ومكثوا على ذلك دهراً، ثم لما رأوا غياب الكواكب في النهار، وبعض اوقات الليل، أمرهم بعض حكمائهم ان يجعلوا اصناماً، يُقرب لها نوع من القربان، معتقدين انهم اذا عظموها، تحركت لهم الاجسام العلوية بكل ما يريدون، ولما طال عليهم العهد، «عبدوا الاصنام على انها تقربهم الى الله، وألغوا عبادة الكواكب».وعلى هذا، فقد أدرك المؤلفون العرب تعددية المذاهب، والآلهة، وأشكال الطقوس المتبعة في الديانة الهندوسية البراهمية، من تلك التي تعلي شأن التوحيد الإلهي، الى تلك التي يتجسد لديها الإله في الصنم، او في أفعى، او بقرة، او نهر الغانج، وعرفوا ما لعقيدة «التناسخ» «من اهمية في السلوك الحياتي، وفي التقوى العقيدية، وفي عقيدة الخلاص، وفي الطقوس المتعددة، ولا سيما طقس إماتة النفس، من فوق جبل مقدس، او في نهر الغانج، او الموت حرقاً، مع نثر رماد الجسد في النهر، او في الأودية.لم يوفقوا في تسمياتهم المختلفة للمذاهب، ولا في تبويب عقائدهم، إلا انهم استطاعوا التعبير عن التربية الروحانية للديانة الهندوسية، ومنابعها، وخلاصاتها، وأساليبها الطقسية التعبيرية، فإضافة الى ما ذكرناه من مذاهب، فقد اشار بعضهم الى الكثير من المذاهب الاخرى، وغفلوا احياناً، عن حقيقة ان هذه المذاهب، والطرق التعبدية، على كثرتها الكاثرة، تضمنتها البراهمية ذاتها، واستوعبتها داخلها، وهذه القاعدة لا تنطبق على جميع المفكرين العرب. فالدمشقي ضم عبدة النار الى البراهمية، فهو يقول: «ومن طرائقهم ايضاً البراهمة عباد النار» وجعلوا «قبلة السجود النار يتوجهون اليها بالعبادة والسجود»، فغاب عن الدمشقي الفرق بين قداسة النار لدى الهندوس، ولدى المجوس، كما انهم انساقوا في مقاربتهم للعقائد البراهمية الى الإحالة الى مرجعياتهم الدينية، والى ما يشبهها من ديانات خبروها في تجربتهم، هذه الإحالة نجدها ايضاً في ترتيبهم، وتبويبهم لمذاهب الهند بين الروحانيات والماديات، بين اصحاب التوحيد من منكري النبوات، وانتهى الشهرستاني الى التركيز على فرق خمس: أصحاب الروحانيات (القائلين بالتوحيد)، وأصحاب الهياكل (أصحاب التجسد) والحكماء (الموحدة اعتماداً على العقل). وعبدة الاصنام. وفرّع عن هذا التقسيم الكثير من المذاهب، فهناك إضافة الى ما ذكرناه سابقاً، جماعة يثبتون الخالق وينفون الرسل، وهم اصحاب فكر، ومنهم الجلهكية، يعبدون الماء ويزعمون انه اصل كل نشوء، ومنهم من يعبد النار، وهي اعظم العناصر وهؤلاء لا يحرقون موتاهم، ومنهم «المهاكلية» لهم صنم يقال له (مها كال) يحجون اليه. ومنهم قوم يعبدون الشمس، واتخذوا لها صنماً، يزعمون ان الشمس ملك من الملائكة ويتقربون اليها بالسجود، والطواف، وفي سياق عرضهم للديانة الهندوسية، افردوا مساحة مهمة لعبادة الاصنام (البُدد) والتي يرتبط كل صنم وشكله ومعبده بالمذهب المتفرع عنه.طقوس ومقدسات أخرىلاحظ مؤلفونا ايضاً تقديس الهندوس للكثير من الظواهر الطبيعية والحيوانية والنباتية في مقدمة تلك الظواهر، تقديسهم لنهر الكنك (الغانج) ويزعمون «ان هذا النهر من الجنة»، فلاحظوا باستفظاع، اقتران تقديسهم للغانج، بطقوس مميتة، روى ابن بطوطة، ان الكثير من الهنود «يغرقون انفسهم، في نهر الغانج، وهو الذي يحجون اليه، ويحرقون انفسهم» فإذا مات اخرجوه وأحرقوه ورموا برماده فيه، وعلى رغم من اعتيادهم رؤية الصوفيين في ديارهم، وطرائقهم التقشفية، الا انهم لم يستطيعوا فهم طقوس «قتل النفس» التي مارسها الهندوس، كطريق للخلاص، وشرح المسعودي هذا الطقس، قائلاً: «والهند تعذب انفسها بأنواع من العذاب من دون الأمم، فمنهم من يصير الى باب الملك يستأذن في إحراقه نفسه، ثم يسير بالأسواق وهامته تحترق». وروى بزرك ان في الهند، رجالاً يقعدون على ضفة النهر، بانتظار ان يجرفهم ماؤه، وعن رجال يعطون اجرة لمن يغرقهم وسرد ابن طاهر المقدسي قائمة بالطرق التي يتبعها الهندوس لقتل انفسهم، اما المقاصد النهائية لهذه الطقوس المروعة، فأرجعها المقدسي، الى ان الهنود «يزعمون ان في ذلك نجاة لها وخلاصاً الى حياة الأبد في الجنة»، اما المقصد الآخر فقد رده السيرافي الى عقيدة التناسخ الهندوسية، إذ «إن سائر الملوك يقولون بالتناسخ ويدينون به». ومن الأشياء التي أثارت استغراب العرب، تقديس الهندوس للبقرة، فقد لاحظ ابن بطوطة باستغراب، أنهم «يعظمون البقر، ويشربون ابوالها للبركة، وللاستشفاء، إذا مرضوا... ويلطخون بيوتهم وحيطانهم بأوراقها». وحرموا قتلها لعلو مكانتها المقدسة.ويبلغ العجب ذروته، رؤيتهم اقتران الطقس المقدس التعبدي بالعهر، ليصبح الأخير مقدساً، وهي مفارقة لم يألفها المفكر العربي، ولم يستسغها، فسجل ابن رسته وجود مئة جارية حول صنم ملتان، وظيفتهن الطقسية الرقص إمام الصنم (البد)، واستعطافه، وفي بعض المعابد توهب الفتاة أمرها للمعبد في ممارستها للعهر حيث يتحول الاخير الى طقس تعبدي، فذهب السيرافي الى ان: «بالهند قحاب يُعرفون بقحاب البد، وقد أثار انتباه البيروني هذا الطقس، ونعته بـ «الآفة»، فبعد ان نفي ما يشاع على ان الهند تبيح الزنا، ينتقل إلى تأكيد ان الهند لا يشددن في العقوبة عليه وحسب، وحصر «الزنا» المباح في بيوت.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment