كان غياب الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه الذي انطفأ جسده ذات يوم من شهر آب عام 1900، وكان قد غادر عقله قبل ذلك بسنوات، لكي ينعم بجنونه المطبق. والمرء قد يشفى بعقله. وقد يُجن من فرط توتر الفكر وإعمال العقل، صوناً للقيمة أو بحثاً عن المعنى، وراء ما يفاجئ أو يصدم من عبث اللامعنى وغرائب اللامعقول. ونيتشه لا يحتاج الى الاحتفاء بذكراه لكي يعود أو يحضر. لعله مارس أقصى الحضور، من خلال أثره القوي في الثورات الفكرية والتيارات الفلسفية التي اندلعت أو تشكلت في النصف الثاني من هذا القرن الذي يصر البعض على أكل سنة كاملة من عمره بسبب لعبة الأرقام. من هنا كان نيتشه على العكس من سارتر الذي وُلد بعد موته بخمس سنوات، ولكنه قد عانى من الحجب على يد جيل من فلاسفة ما بعد الحداثة، رجعوا الى نيتشه أو الى هيدغر بقدر ما ثاروا ضد سارتر أو برزوا عبر نقده والخروج عليه. من هنا لا مبالغة في القول بأن نيتشه يُعد أول من فتح الأفق الرحب والملتبس لعصر ما بعد الحداثة، في الفكر والفلسفة، من غير استخدام التسمية، وذلك عبر تفكيكه لعناوين الحداثة كالإنسان والعقل والتقدم، أو تقويضه لبداهات فلسفية تعيَّش أهلها طويلا على صنم فكري تجسد في اعتقادهم بأن الفلسفة هي مملكة العقل وملكوت الحرية أو نظام القيم ومؤسسة الحقيقة. هذا ما جعل نيتشه أول من يخرج على الحداثة، تماما كما أن ديكارت كان أول مفكر حديث. من هنا الموقع الملتبس الذي يحتله نيتشه والذي يجعل من الصعب تصنيفه بين الفلاسفة، لدى الذين يتعاطون مع الفلسفة بعقلية أصولية تقليدية. لقد فهم نيتشه الفلسفة ومارسها بصورة خالف فيها التقاليد الراسخة وشذ عن الأصول المتبعة كما يتجلى ذلك في غير جانب من جوانب فكره ونتاجه. 1 لقد فتح نيتشه الفلسفة على الحياة باضطرامها وتوترها، بتقلباتها وجراحاتها، فيما كان الميل السائد لدى الفلاسفة سجن الحياة ضمن قوالب المنطق الشكلي أو ضبطها تحت سقف القيم المتعالية أو الأوامر الجازمة. هذا الموقف الجديد تجلى في انفتاح نيتشه على الفن بقدر ما تجسد في إحلاله المحسوس منزلة أعلى مما هو فوق الحس، كما يبيّن ماتيو كسلر أحد المهتمين بقراءة فلسفة نيتشه من زاوية علم الجمال. من هنا لا انفكاك عنده للفيلسوف عن الفنان. يقول نيتشه: »الفن أعلى قيمة من الحقيقة«، لأن الحقيقة تجر إلى الهلاك. بالطبع، هذا شأن الحقيقة بالمقياس المثالي الأفلاطوني أو بالمعنى الكنطي المتعالي. وذلك حيث يجري التعامل معها بوصفها مبدأً مفارقا أو أصلا مسبقا أو زمنا ضائعا، أي ضالة الباحث عنها أو العاشق لها. ومآل مثل هذه المعاملة إنتاج المفارقات والتناقضات أو توليد الفضائح والارتكابات. وبتقويض مثل هذا المفهوم للحقيقة، استلهاما من الفيلسوف لعمل الفنان، تكف الحقيقة عن كونها معرفة يقينية مطابقة، أي علما بالكلي والضروري، لكي تصبح ما نقدر على خلقه وصنعه، في ما ندّعي معرفته أو البحث عنه. من غير ذلك تصبح الحقيقة مصدر الهلاك والدمار. أليس هذا ما حصده، يمنة ويسرة، أصحاب المشاريع الإيديولوجية، ممن ادعوا امتلاك المعنى أو القبض على قوانين الواقع؟ الفيلسوف فنان ولأن الفيلسوف فنان، خالق أو صانع، فإن نيتشه ابتعد عن منطق البرهان ولغة الحجاج المحض، لكي يعتمد أسلوب اللمع المتوقدة والشذرات المقتضبة. وهذا الأسلوب نجده عند أهل التصوف، وذلك حيث يمتزج المفهوم والذوق، أو المنطق والشعر. وهكذا فإن كتابات نيتشه الفلسفية بحرارتها ووجدها وتوترها، تجد صداها القديم لدى شعراء الصوفية وأقطابها كالحلاج والنفري وابن عربي وسواهم من الذين مارسوا علاقتهم بوجودهم وهويتهم كاختلاف وانشقاق أو كمحنة ومأزق، بقدر ما انفتحوا على تعددية المعنى والتباسه، أو بقدر ما أدركوا إشكالية الحقيقة ومفارقاتها، أو بقدر ما هتكوا أستار القيم وكشفوا فضائحها. من هنا فالباحثون عن الحقيقة العارية والطالبون لقيمة القيم إنما مآلهم ممارسة الخداع المعرفي والزيف الوجودي، أو مصيرهم الاستشهاد أو الجنون كما تشهد تجربة نيتشه بالتباساتها ومأساويتها. 2 لم يتعامل نيتشه مع الأقوال كما تقدم نفسها، أي ليس بحسب ما تقوله أو تصرح به، بل حاول دوماً خرق المعلن والمقول والظاهر، نحو ما لا يقال ولا يُرى، ربما من فرط وضوحه وبداهته. نجد مثال ذلك في قول الرواقيين الذين يدعوننا للعيش وفقا لقوانين الطبيعة، فيما هم في الواقع قد أرادوا لنا العيش وفقا لقوانين الرواق، أي وفقا لطبائعهم وأمزجتهم. وهذا شأن كنط الذي ادعى أن كشفه لما سماه »الأحكام القبلية التركيبية« قد فتح الدرب الآمنة أمام العلم، بقدر ما جعل المعرفة العقلية تقوم على أساس متين من اليقين، بحيث تكون ضرورية وكلية، أو تجري وفقا لقوانين ثابتة وخالدة. غير أن كنط الذي تباهى بإنجازه قد تناسى بأن المعرفة التي قدمها لنا هي وليدة تجربة محايثة وبعدية، بقدر ما تناسى ان مقولته حول قدرة العقل على تأليف أحكام قبلية، هي أشبه بمن يريد تحقيق أمر »بقدرة قادر«، أي إنها تنبني على الاعتباط والتحكم والإيمان الضروري. ويبلغ الخداع في نظر نيتشه مبلغه، في مقولة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر إذن أنا أكون، وهي مقولة تزين لنا بنوع من اليقين بلا توسط، أي الحدس المعرفي الخالي من الشرح والاستدلال، أن لنا »أنا« هي مصدر فعل التفكير، فيما هي تتناسى أن الأنا هي ثمة الفكر، بقدر ما تسقط أثر اللغة والإرادة والهوى والجسم، أي كل ما هو مادة التفكير أو أداته من اللامعقولات التي يؤول نفيها أو القفز فوقها إلى تلغيم العقل بالأوهام والتحكمات. وهكذا يرى نيتشه أن الفلاسفة يقدمون أنفسهم في خطاباتهم تحت شعارات العقل المحض والمعرفة المطلقة والحقيقة المتعالية والقيمة العليا واليقين بلا توسط، ولكن ما يتسترون عليه في أقاويلهم ومزاعمهم هو طغيان الغريزة وإرادة القوة والمذكرات الذاتية والاعتقادات المسبقة والحيل اللطيفة والشعوذات الفكرية. وهذه الأشياء لا تُرى في العقول، ليس لأنها خفية، بل هي ظاهرة، ولكنها لا تُرى وسط الرؤية بالذات. وهذه حال الفيلسوف الذي يقدم نفسه وصياً على العقل، فيما هو يمارس عشقه المفرط لمهنته وعمله، لبضاعته ونتاجاته من المقولات والمفاهيم. ولا عجب، فلولا هوى المعرفة لما استطاع المرء أن يعرف شيئا. العود الأبدي وإرادة القوة 3 أطلق نيتشه جملة من المقولات شغلت الذين أتوا بعده، كالعود الأبدي، وإرادة القوة، والإنسان الأعلى، والنزعة العدمية. وقد قرئت هذه المقولات التي جرى فيها صاحبها، بعكس التيار، قراءات متعارضة صنف بموجبها نيتشه مرة ذات اليمين ومرة ذات اليسار. من هنا الربط الذي عقده البعض بين شعار »الإنسان الأعلى« وبين قيام نظام فاشي في ألمانيا على أساس عنصري. ولا مراء أن قراءة كهذه، إنما تختزل فكر نيتشه بقدر ما تحيله الى معتقد أو منزع أو مذهب، أو بقدر ما تحيل نصوصه الى موضوع للمحاكمة أو الإدانة. وفي هذا مقتل القراءة الخصبة والمثمرة، التي تتعاطى مع النص بوصفه حقلاً من الإمكان. ولنتوقف قليلا عند مصطلح العود الأبدي. هذا المفهوم لا يعني عودة الشيء ذاته، أي لا يعني عودة الشبيه، بقدر ما يعني عودة المرء على ذاته وفكره. والحداثة ليست سوى ذلك، أي عودة نقدية للفكر على نتاجاته، للكشف عن إشكالاته ومآزقه، أو لتعرية مفارقاته وفضائحه. هكذا يمكن التعاطي مع فكر ديكارت. إنه ليس مجرد مذهب أو مدرسة، بقدر ما هو عالم فكري تغير معه الموقف من الحقيقة بقدر ما تغيرت معه الصيغة الوجودية بوصفها علاقة مركبة بين الأنا والفكر والوجود. وهذا شأن نيتشه بامتياز. فأعماله هي أشبه بشرارات نقدية تفتح نار الأسئلة على البداهات المحتجبة والأصول المنسية والعقائد المتحجرة. مع فارق بين ديكارت ونيتشه؛ فالأول أسس للحداثة، في حين قام الثاني بهدم الأسس وتفكيك الأصول. وهكذا فالحداثة تأسيس أو إعادة تأسيس وبناء على سبيل الترميم أو التقويم، كما هي علاقة الحداثيين بمشاريع التنوير ومباني العقلنة. في حين أن ما بعد الحداثة هي سعي متواصل، بالنقد والتحليل أو بالتشريح والتفكيك، لكشف أو لتعرية ما تنطوي عليه محاولات التأسيس والتأصيل من الحجب والتضليل أو من الاستبعاد والتهميش أو من الإقصاء والإرهاب. هذا أيضا شأن مصطلح العدمية. إنه مفهوم ملتبس، إذ هو ليس دعوة الى السلب والعبث، بقدر ما هو قراءة ما هو حاصل من مظاهر العبث والمرض أو الإنهاك والتفكك، فيما وراء خطابات القيم والمثل، أي هو قراءة لواقع يتجسد في موت الله وانحطاط الإنسان. بهذا المعنى ليس نيتشه عدميا، بقدر ما حاول أن يرصد انهيار القيم أو أن يقرأ في أزمة المعنى، تماما كما أن التفكيك ليس دعوة الى الهدم، بقدر ما هو قراءة في أنقاض العقل ونقائض الواقع. من هنا الوجه الآخر، الايجابي أو الإنساني، لعدمية نيتشه: تحرر الإنسان من براثن اللاهوت، ونهوضه بديلا عن الله، كائنا يخلق معنى وجوده ويتحمل مسؤوليته في إدارة مصيره وصنع مستقبله بصورة لا تأسره فيها هوية مسبقة أو تعريف حاسم ونهائي. وهذا معنى من معاني الإنسان الأعلى. الأخلاق 4 يبقى الأهم وهو أن نيتشه قد اجترح طريقة جديدة في الدرس والتحليل بقدر ما افتتح منطقة خصبة كانت من قبل عصية أو ممتنعة على التفكير. تلك هي أصوليات الأخلاق، لدى نيتشه. وهي بالطبع ليست دعوة إلى اتباع الأصول، وإنما هي محاولة لتفكيك مؤسسة الحقيقة لدى الفلاسفة، بقراءة خطاباتهم كشبكات من المجاز والاستعارة، أو كألاعيب من القوة والرغبة، أو كشيفرات من الأعراض والعلامات، أو كأفخاخ من فجوات الكلام وخدع النصوص. وتفكيك الحقيقة وجهه الآخر هو تفكيك لكل أصل متعالٍ أو مطلق أو ثابت، وذلك بتبيان نشأته التاريخية وأرضه المحايثة وتحولاته المتعاقبة. من هنا فالأصل يتكون ويكتسب ماهيته الثابتة أو هويته المتعالية بطمس تاريخيته وصيرورته أو بحجب كونه محصلة فروعه التي هي أطواره أو وجوهه التي ينسخ بعضها بعضا. على هذه الأرض التي اكتشفها نيتشه قد جرى الحرث، في ما بعد، من جانب فلاسفة كهيدغر وفوكو ودولوز. 5 لا مراء أن نيتشه هو صاحب مشروع كسواه من الفلاسفة، بالرغم من نقده للمشاريع الفلسفية. فهو ليس عدميا في النهاية، بقدر ما كان متعلقا بقيمة ما. حتى الله الذي أعلن عن موته يحضر في خطابه، وذلك بقدر ما يستدعي المفهوم نقيضه في الثنائيات المتعارضة. من هنا فإن مشروع نيتشه المندرج تحت عنوان »الإنسان الأعلى«، هو مأزقه بالذات. ذلك ان هذا الشعار لم يكن سوى بشارة كاذبة. فلم تمض عقود بعد نيتشه حتى أتى من استثمر النيتشوية لإعلان »موت الإنسان« ما على ما فعل ميشال فوكو. ولا عجب فالإنسان الأعلى كما طرحه نيتشه، ليس سوى شكل جديد من أشكال التألّه الذي حاربه. وهذا الشكل الأعلى، الاصطفائي أو النخبوي، قد ولّد المحن الشخصية بقدر ما صنع المآسي والكوارث. وتلك هي الثمرة السيئة لإنسانيتنا المفرطة.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment